انما الاعمال بالنيات
ومن الأحاديث العظيمة التي وضحت هذا المعنى الحديث الذي في الصحيحين عن عمر
رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى , فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله , فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته لدنيا
يصيبها أو امرأة ينكحها , فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
فهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين , ولذلك صدر به أهل العلم
كتبهم , وابتدؤوا به مصنفاتهم , قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( هذا
الحديث ثلث العلم , ويدخل في سبعين بابا من أبواب الفقه , وما ترك لمبطل
ولا مضار ولا محتال حجة إلى لقاء الله تعالى ) .
والنية هي القصد الباعث على العمل , ومقاصد العباد تختلف اختلافا عظيما
بحسب ما يقوم في القلب .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني أحد أمرين الأول
: أن وقوعها واعتبارها شرعا لا يكون إلا بالنية , فكل عمل اختياري يفعله
العبد لا بد له من نية باعثة على هذا العمل , والثاني أن صحة هذه الأعمال
وفسادها , وقبولَها وردَّها , والثواب عليها وعدمه لا يكون إلا بالنية .
فالعبادات والأعمال الصالحة بأنواعها , من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج
وغيرها لا تصح ولا تعتبر شرعا إلا بقصدها ونيتها ، بمعنى أن ينوي تلك
العبادة المعينة دون غيرها , فلا بد من النية لتمييز صلاة الظهر عن صلاة
العصر مثلا , ولا بد منها لتمييز صيام الفريضة عن صيام النافلة , وهكذا .
وكما أن النية مطلوبة لتمييز العبادات بعضها عن بعض , فهي مطلوبة أيضا
لتمييز العادة عن العبادة , فالغسل مثلاً يقع للنظافة والتبريد ، ويقع عن
الحدث الأكبر ، وعن الجمعة ، والنية هي التي تحدد ذلك , وهذا المعنى للنية
هو الذي يذكره الفقهاء في كلامهم .
وأما المعنى الثاني , فهو تمييز المقصود بهذا العمل , هل هو الله وحده لا
شريك له , أم غيره, ففيه دعوة للعبد إلى إخلاص العمل لله في كل ما يأتي وما
يذر , وفي كل ما يقول ويفعل , فيحرص كل الحرص على تحقيق الإخلاص وتكميله ،
ودفع كل ما يضاده من رياء أوسمعة ، أوقصد الحمد والثناء من الخلق ، وهذا
المعنى هو الذي يرد ذكره كثيرا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف
الأمة , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : ( وإنما لكل امرئ ما نوى )
, أي أنه ليس للإنسان من عمله إلا ما نواه من خير أو شر , فمن نوى نية
حسنة تقربه إلى الله , فله من الثواب والجزاء على قدر نيته , ومن نقصت نيته
وقصده نقص ثوابه , ومن اتجهت نيته إلى غير ذلك من المقاصد الدنيئة فاته
الأجر والثواب , وحصل على ما نواه .
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا للأعمال التي صورتها واحدة , واختلف
صلاحها وفسادها بسبب اختلاف نيات أصحابها , وهو مثال الهجرة من دار الكفر
إلى دار الإسلام , كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ,
فأخبر أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد منها , فمن هاجر إلى
دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام , وإظهار شعائره
التي يعجز عنها في دار الشرك , فهذا هو المهاجر حقا , وهو الذي يحصل أجر
الهجرة إلى الله ورسوله , ومن هاجر لأمر من أمور الدنيا , أو لامرأة في دار
الإسلام يرغب في نكاحها , فهذا ليس بمهاجر إلى الله ورسوله على الحقيقة ,
وليس له من هجرته إلا ما نواه .
وسائر الأعمال الصالحة في هذا المعنى كالهجرة , فإن صلاحها وفسادها بحسب
النية الباعثة عليها , وحين سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة
أو حمية أو ليُرَى مكانُه , أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ قال : ( من قاتل لتكون
كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) كما في الصحيحين , وقال تعالى في
اختلاف النفقة بحسب النيات : {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله
وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة .... الآية } (البقرة 265 ) وقال : {
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .....
الآية } (النساء 38) وهكذا جميع الأعمال.
فالأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العبد من الإيمان
والإخلاص ، حتى إن صاحب النية الصادقة يكون له أجر العامل نفسه ولو لم يعمل
, ولهذا لما تخلف نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن غزوة تبوك
بسبب بعض الأعذار الشرعية التي أعاقتهم عن الخروج قال عليه الصلاة والسلام
كما في الصحيح : ( إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعتم
وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) .
وكما تجري النية في العبادات فكذلك تجري في المباحات , فإن قصد العبد بكسبه
وأعماله المباحة , الاستعانة بذلك على القيام بحق الله والواجبات الشرعية ,
واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه , ونومه وراحته , ومكسبه ومعاشة ,
أجر على تلك النية ، ومن فاته ذلك فقد فاته خير كثير , يقول معاذ رضي الله
عنه ( إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ) , وفي الصحيح عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال : ( إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه ،
حتى ما تجعله في فيِّ امرأتِك )
وأما الحرام فلا يكون قربة بحال من الأحوال حتى لو ادعى الإنسان فيه حسن
النية .
وبذلك يكون هذا الحديث جامعاً لأمور الخير كلها , فحري بالمؤمن أن يفهم
معناه وأن يعمل بمقتضاه في جميع أحواله وأوقاته .
"منقول"